ترجمة أحمد رباص
المقال الأصلي: Le visage de Socrate a ses raisons... Nietzsche sur « le problème de Socrate »

ربما هو على حق. لكن لا يسعني إلا أن أفكر في أن صورته عن " الانسان السليم البنية " تنطبق بشكل مثالي على سقراط في نصوص أفلاطون الأولى، الذي كان يعرف دائمًا ما هو الخير بالنسبة له، الذي توقفت متعته هنا أين يشاهد كيف أن المعاناة بدأت، الذي كان يستمتع باستمرار ضمن مجتمعه الخاص، والذي لم يصدق لا الحظ العاثر ولا الخطأ. ما يثير الدهشة بالنسبة لي هو أنه مع الرقة والفطنة اللتين كلتاهما ميزته  كملاحظ وكقارئ، لم يكن نيتشه ينظر إلى التشابه الموجود بين سقراط ونفسه. ولكن ألم يلمسه حقا؟

قارنوا بين نيتشه، المريض طيلة حياته تقريبا (وجعل من مرضه موضوعا لكتاباته، جزئيا)، وسقراط، الذي كان مثالا للصحة الجيدة؛ بين نيتشه الذي كان مغلفا باستمرار لمحاربة البرد، وسقراط، الذي كان يرتدي السترة نفسها، صيفا وشتاء، ويمشي حافي القدمين؛ بين نيتشه، الذي أدرك أن "كوبًا من النبيذ أو الجعة في اليوم سيكون كافيًا لأن تصبح الحياة (بالنسبة له) مثل" وادي الدموع "، وسقراط الذي أكسبه شرب الكحول، بكميات هائلة في حالته، بنية جسمانية قوية تماما؛ بين نيتشه، المتمشي بمشقة، بحكم الحول، بسقراط، الذي كان يفتخر بأن عينيه المتعنتين  تسمحان له برؤية ما يوجد أمامه وعلى الجانبين؛ بين نيتشه، الذي أمضى حياته في الكتابة، مفصولا عن العالم، بسقراط، الذي كان دائمًا محاطًا (بالحضور)، مشاركا في محادثة، ولم يسبق له أن كتب شيئا  - قارنوا بينهما انطلاقا من هذه النقاط وغيرها كثير، وسوف ترون أن مسألة معرفة من هو المنحط ومن هو في صحة جيدة تصبح فارغة من كل معنى.

ربما هذه ليست سوى سمات سطحية. إن الصحة والانحطاط  الحقيقييان، كما يفهمها نيتشه، قد يتوقفان على الأهداف التي وضعناها لأنفسنا - الاستقرار أو النمو، المطابقة أو الاختلاف - وعلى الحياة التي نختارها. هذا صحيح. ولكن هنا مرة أخرى، فإن الفرق بينه وبين سقراط يبدو من الضآلة بحيث أن نيتشه لم يعره أي اعتبار. لأجل معرفة ذلك ، يلزم التساؤل مجددا لماذا يهاجم نيتشه سقراط بهذا القدر من العنف الشديد.

السبب في ذلك أن سقراط هو الوحيد من " معلمي " نيتشه الذي لم يكن متأكدا أبداً من تحرره منه. في نظر نيتشه وبدون أي تنازل من لدنه، كان سقراط، رغم ما وسعه من ظنون فيه من جهة أخرى، واحداً من الرجال العظام الحقيقيين الذين عرفهم العالم. اعتقد نيتشه كذلك، وهذا صحيح، أن سقراط، باعتباره رجلاً عظيماً، كان بمثابة أصل لتصور كوني عن الحياة البشرية أصبح مرجعًا لثقافة كان نيتشه يكرهها. سقراط والدوغماتية (الوثوقية) لم يسبق لهما أبدا أن ابتعد الواحد منهما عن الآخر. ربما قد يحدث هذا لجميع الرجال العظام. بقدر محدد من القوة يحافظ  المرء ويدافع عن امتلاكه الدوغمائي لحياته، لذاته، لن يكون أبدا واثقا من قدرته على منع ذلك. كافح نيتشه بحماسة أكثر من أي فيلسوف آخر في فن العيش من أجل التذكير بأن أفكاره، قيمه، حياته كانت خاصة به وليس نماذج للعالم منظورا اليه ككل. حاول إقناع قرائه أنه عندما يكون السؤال (كما صاغه سقراط) هو كيف يجب أن نعيش، تكون إثارة الإعجاب أكثر أهمية من الإقناع. لكنه عرف أنه لا يملك أي سلطة على المستقبل، وأنه عند هذه النقطة، يكون الرجال العظام تحت رحمة مؤيديهم. في معظم الحالات، يتعلق الأمر بقرائهم، الذين يمكنهم الاستحواذ على أفكارهم ليحولوها لتطبيق دوغمائي، كما لو جرى تصميمها لتمتد إلى الجميع. لكن علاوة على ذلك، وجد سقراط هو الآخر نفسه تحت رحمة كاتبه الخاص، الذي طور أحد أعظم الأنساق الفلسفية الشمولية في التاريخ. ماذا لو لم يكن مشروع سقراط نفسه مختلفًا بهذا القدر، في النهاية، عن مشروع نيتشه؟ ماذا يعني ذلك بالنسبة لأعمأل نيتشه الفلسفية؟

يمكن القول إن الفرق الأساسي بين سقراط ونيتشه هو أن نيتشه صور نمط حياة تنبع فيه أفعالنا بشكل أساسي وبدون مشقة من طبيعتنا، في حين أن سقراط كان دائما بحاجة إلى اللجوء إلى الأسباب - عنوة - لاختيار وتبرير حياته. لكن هل يمكن لنا قول ذلك عن سقراط؟ كما رأينا، تُظهر النصوص الأولى لأفلاطون أن سقراط قد أمضى حياته في محاولة للوصول إلى معرفة تقنية أو خبيرة بطبيعة ال’aretê الذي كان سيوفر له أسباب الفعل. لكن، بما أنه لم يصل  إلى هذه المعرفة، فإن أفعاله، التي وصفها أفلاطون بأنها أخلاقية وصالحة دائما، لم تنتج عن مثل تلك الأسباب؛ كانت لغزا: لم تكن ذات مصدر. ومع ذلك، أن نكون قادرين دائما على  إتيان الفعل المناسب دون جهد أو تردد، وبدون سبب، فهذا بالضبط ما يشيد به نيتشه كفعل " غريزي ". انطلاقا من ذلك، أيا كانت رؤيته النظرية، ربما استطاع سقراط أن يعيش " غريزيًا " مثلما زعم نيتشه أنه فعل.

وبما أن نيتشه يشك أحيانا، من وجهة نظري، في كون الأمور قد حدثت بالفعل بهذه الطريقة، فقد كان سقراط يمثل مشكلة كبيرة بالنسبة له. كان  نيتشه يعتقد أن مشروعه تمثل في التصدي للفلسفة الدوغمائية، التقليدية والسعي بوعي ليجعل من نفسه فردا غير قابل لأن يحاكى. لكنه لا يستطيع أن يكون على يقين من أن مشروعه الخاص به لم يكن هو أيضاً مشروع مؤسس التقليد الذي يعرف بنفسه في تعارض معه. لم يكن بإمكانه التأكد من أن مشروعه كان مختلفا عن المشروع الخاص بالتقليد الذي كان ينتقده. هل يمكن أن يكون، كما تساءل، قد شارك في هذه الفلسفة التي رغب في الانفصال عنها؟ هل من الممكن أن سقراط لم ينتم إلى التقليد المعارض، بل كان حليفا لنيتشه؟ وإذا كان حليفه، ماذا عن أصالة أعمال نيتشه؟ هل يمكن لأحد أن يدعي أنه متحرر من الفلسفة أو من سقراط طالما هو يكتب عنهما، حتى ولو كان ذلك من أجل تنحيتهما؟

كانت مشكلة سقراط بالنسبة لنيتشه هي المشكلة التي أثارتها كل هذه الأسئلة، والتي لم يستطع أن يجيب عنها بكيفية مقنعة. يفتتح Ecce Homo بتعبير نيتشه عن الامتنان طوال حياته، بسبب العمل الذي أنجزه خلال الأشهر الثلاثة الماضية، ولكن أيضا، بالطبع، بسبب كل ذلك الذي سمح له بالوصول الى هنا. لكن امتنان نيتشه طوال حياته يظهر على أنه يستبعد سقراط، على الرغم من كون الأخير عنصراً رئيسياً بالنسبة له. والسبب هو، كما يبدو لي، أنه كان على مقربة شديدة من سقراط، منافسه إلى الأبد، الذي إذا اعترف بما هو مدين له فإنه يكون، في نظره، كما لو اعترف بأنه لم يكن هو نفسه، ما كان يقوله عن كينونته.

كان موقف نيتشه تجاه سقراط متناقضًا بصورة أساسية. لم يكن سقراط هو " نموذجه " ولا " الشرير العظيم " في نظره. المشكلة التي ما فتئت تفرض ذاتها وتنهشه جاءت من كونه لم يستطع أن أن يكون متأكداً أبداً من أن بشاعة سقراط لم تكن، في النهاية، انعكاساً لبشاعته. هل من الممكن أن يكون للمتهكم الكبير الذي ميز فيه نيتشه بين " ثلاثة أرواح "، روح رابعة، قريبًة جدًا من روح خصمه العتيد؟ هل من الممكن أن يكون سقراط أيضاً قد صنع نفسه بنفسه، على غرار نيتشه؟

لكن هذا يعني أن نيتشه جعل نفسه مثل سقراط. ما الذي سيبقى بعد ذلك لدى نيتشه ليعارضه؟ هناك الكثير من الأشياء، في رأيي، وعلى وجه الخصوص ، أفلاطون وتمثل سقراط الذي قدمه في محاورات النضج، التمثل الذي يخلطه نيتشه، تبعا لحاجاته، مع الأصل. ولكني أود أيضاً أن أعتقد بأنه ربما هناك لحظات في حياته  ثمن فيها نيتشه سقراط المحاورات الأولى لأفلاطون، وواستمتع فيها بمقطع كتبه مبكرا قبل أن يجعل من سقراط العدو الأكبر للحياة. سأسمح لنفسي بأن أقتبسه، أخيراً، خاصة أنه يسمح لنا بالعودة إلى نقطة انطلاقنا:

" سقراط. - إذا سارت الأمور على ما يرام، فسوف يأتي الوقت الذي سنتناول فيه، من أجل المضي قدما على درب الأخلاق والعقل، بدلاً من الإنجيل،  مأثورات سقراط ونعتبر فيه مونطيني وهوراس كمبادرين ودليلين لذكاء هذا الوسيط الحكيم، الأكثر بساطة والأشد تمنعا عن النضوب من الجميع ، سقراط. تتلاقى فيه مسارات أنماط الحياة الفلسفية الأكثر تنوعًا، والتي هي في الواقع أنماط حياة مختلف الأمزجة، التي يحددها العقل والعادة، لها جميعا قمة تتجه صوب الفرح بالعيش والفرح بما يأخذه الإنسان من ذاته؛ من هنا نستنتج أن ما كان لسقراط على وجه الخصوص هو مشاركته في جميع الأمزجة.

لكن المشاركة في جميع الامزجة هي عدم المشاركة في أي واحد منها، هي التزام الصمت،  فقدان لآي وجه، إذا جاز التعبير. وهذا يعيدنا مرة أخرى إلى سقراط الذي أحاول تمييزصمته  عن أصدائه الكثيرة.

(انتهى)

*الحلقات السابقة من هنا

أدخل بريدك الالكتروني للحصول على أخر المستجدات

إرسال تعليق

 
Top