قضيت اليوم زهاء ساعة في محادثة جماعية مع صديقبن فايسبوكيبن من الاوائل الذين دعوا إلى المقاطعة في إحدى المجموعات التي كانت مخصصة لمناقشة الوضع الاجتماعي والبدائل الاحتجاجية الممكنة في ظل القمع. شباب في مقتبل العمر يمثلون قدوة في التفاني والإيمان بقضايا المجتمع ونكران الذات، ولا تستهويهم الأضواء حتى انك من الصعب أن تجد بينهم من يستطيع أن يتبنى إطلاق النداء اول مرة، ما جعل المقاطعة تكتسي طابعا شعبيا تجاوز كل الفوارق، وتزداد رفعته بوما بعد يوم.

في هذه الورقة وساحاول بشكل سريع أن اتقاسم معكم بعض الخلاصات التي خرجت بها من هذه المكالمة.

أولها أن هؤلاء النشطاء كلهم شباب تتراوح أعمارهم بين 20 و25 سنة. إنه جيل جديد، جيل ما بعد العشرين من فبراير، جيل ترعرع في أكناف الثورة الرقمية بكل ما تحمله من مزايا، سواء على المستوى التواصلي التنظيمي أو على المستوى التفاعلي القيمي العولمي..

ثانيها أنهم طلبة ومجازون وأطر عليا معظمهم تلقى تكوينا متينا في الاقتصاد كما يبدو على المبررات والتوضيحات التي عمموها منذ البداية تفاعلا مع الانتقادات التي آخدت عليهم التركيز على المنتوجات الثلاثة. واللافت في هذا النوع من التخطيط الدقيق أنه يسائل في المقام الأول أولئك الذين يتحسرون صباح مساء على غياب المثقف الذي يملك الأدوات العلمية التي يستطيع بواسطتها تطويع المعطيات إلى مختبره التجريدي والعودة بمقترحات من شأنها أن تدفع بالقاطرة إلى الأمام.. هذا الطراز من المثقفين لم يعد موجودا للاسباب الموضوعية المعروفة، أو لنقل إنه بات متجاوزا..

ثالثها ان هؤلاء الشباب لا ينتمون إلى أي تنظيم سياسي أو أيديولوجي. ورغم أن هذا المعلومة لم تعد ذات موضوع لأن الوقائع أظهرت للمشككين - عن حق - في نوايا المقاطعة وانتمائهم الحزبي فإن هذا المعطى مهم جدا لفهم هذه الدينامية ضمن النسق العام للتطورات التي يشهدها المجتمع المغربي منذ اندلاع الاحتجاجات في الحسيمة التي أعلنت ميلاد جيل جديد من الاحتجاجات السوسيوقتصادية أقصى المنظومة السياسية من حساباته وسار بسائل بشكل مباشر ودون وسيط صانعي السياسات العمومية والاقتصادية، أو ما يصطلح عليه بالنموذج التنموي الذي سيقر الملك نفسه بعد ذلك بإفلاسه أمام البرلمان.

في هذا الاطار يمكن أن ندرج الحركة الاحتجاجية الجديدة التي تقاطع سنطرال وأفريقيا وسيدي علي من منطلق مواجهة "الجشع" الذي أثقل كاهل المغاربة، ولكنها في العمق تسائل بشكل دقيق جدا عيوب السياسات الاقتصادية التي احتكر القصر سلطة التقرير بشأنها ولا تخضع لاي نقاش عمومي، وهو ما يعبر عنه عادة بشكل إجمالي بزواج السلطة والمال. كيف؟

مقاطعة حليب سنطرال تعني مساءلة مجلس المنافسة الذي تم تعطيله منذ زمن بعيد قبل أن يجهز عليه القصر بشكل نهائي على يد بنكيران. فغياب هذه الآلية الضبطية، الدستورية يا حسرة، حول السوق إلى غابة حقيقية يفترس فيها الأقوياء المحكومين، بقوة السلطة أو بقوة "الكارتيلات"، تلك التحالفات اللامشروعة التي تبرمها المقاولات الكبرى على حساب جيوب المغاربة بشكل لم يعد موجودا الا في كتب التاريخ الاستعماري ايام اجتمعت طوطال وأخواتها الست le cartel des sept sœurs بشكل سري في قلعة اكنكاري في سكوتلاندا صيف سنة 1928 للاتفاق على حصص كا منها في الكعكة البترولية الشرق اوسطبة..

وفي هذا السياق أيضا نستطيع أن ندرج مقاطعة محطات أفريقيا - غاز، ولو انها تسائل في المقام الأول ذلك القرار السياسي الذي مهد الطريق للكارتيل الجديد عندما تم توقيع اتفاق بتحرير أسعار المنتجات البترولية على يد بنكيران..

اما مقاطعة سيدي علي فإنها تسائل سياسة قلما تثار في النقاش العمومي وبقيت حكرا على المقاولات التي تنشط في ميدان الاستيراد، الا وهي سياسة الحماية الجمركية le protectionnisme. فما الذي يبرر مثلا ذلك التفاوت الصارخ الذي تشير إليه العديد من الفيديوهات التي تظهر من عين المكان اثمنة المياه المعدنية في أمريكا أو في دول أوروبية قريبة كإسبانيا وتقارنها مع اثمنة سيدي علي؟ ما الذي يمنع المقاولين من استيراد هذه المياه وكل البضائع التنافسية الاخري؟ أكيد انك لا تستطيع أن تجد دولة واحدة حول العالم، سيما الصغرى، لا تعتمد سباسة حمائية تحميها من الغول العولمي من خلال تدبير الرسوم الجمركية، ولكن الفرق انها في المغرب سنت على مقاس واحد وهو حماية المقاولات الملكية والتي تسبح في فلكها، واغتيال المقاولات التي تسول لها نفسها أن تزاحمها، وهذا واحد من أفظع تجليات زواج السلطة والمال الذي يندد به الجميع منذ مدة غير يسيرة، وكرسته هذه المقاطعة بشكل ملموس..

انها حركة احتجاجية تستحق التأمل، ليس فقط بسبب الابعاد التي تكتنف مطالبها، ولكن، أيضا، لأن الصبغة التي اتخذتها تجسد الدينامية الاجتماعية التي يعيشها المجتمع بالتوازي مع التطورات الديموغرافية والمؤشرات السوسيوقتصادية الكارثية بحثا عن أشكال احتجاجية جديدة أكثر فعالية وتأخذ بعين الاعتبار بطش الآلة البوليسية والقضائية السلطوية، هذا المنطلق تعين على صناع القرار أن يتعاملوا معها بجد، ولعل اول ما يجب القيام به هو تفعيل مجلس المنافسة وإعادة النظر في السياسات التي أنتجت هذا الشكل الاحتجاجي

أدخل بريدك الالكتروني للحصول على أخر المستجدات

إرسال تعليق

 
Top